Monday 28 July 2008

التناقض الداخلي في فكرة الشك

نشأت الفلسفة في اليونان القديمة ، عندما أطلق طاليس أول تساؤل فلسفي عن أصل الوجود ومادته، ومنذ ذلك الحين تميزت الحضارة اليونانية بأهم خصائصها التي انسحبت على العالم الغربي بأكمله ، وأعني التفكير العقلاني .. والعقلانية عند اليونان ارتبطت بمفهوم " السببية " .. أي الاعتقاد بأن لكل حدث سبب ، ومن هنا أخذ مفهوم العقل عندهم نفس المعنى وأصبحت الكلمات الدالة على العقل هي
Reason, Reasoning, Rationality, Reasonable ...
وهي كلها كلمات مأخوذة عن الكلمة اليونانية
Ratio
والتي تعني السبب ..
والغريب أن في اللغة العربية نجد معنى كلمة " العقل " يوحي هو أيضاً بنفس المعنى .. الربط ، أي ربط الحدث بأسبابه !
***
عرفت الحضارة اليونانية أزهى عصورها وتقدمها عندما كانت الفلسفة فيها تقوم على العقل والمنطق ، فأنتجت سقراط وأفلاطون وأرسطو وهيراقليطس ومدارس الفلسفة المختلفة من مشائية ورواقية وغيرها ..
ولكنها بدأت بالانهيار بمجرد دخول ما سمي بفلسفة " الشك المطلق " .. وهي حقيقة تاريخية إذ ارتبط انهيار كل الحضارات القديمة بانتشار عنصر الشك حتى قيل بأن الشك عنصر هدم وتقويض ..
وهذا أمر واضح إذ لم يقدم الفلاسفة الشكاك على مر التاريخ أية حقائق على الاطلاق ، وإنما هم فقط مارسوا " لعبة عقلية " ساهم القصور في اللغة والتفكير في رواجها .. مع أنها تحمل في داخلها كل معاني التناقض الداخلي واللامعقول ..
ويكفي أن نذكر حجج زينون الإيلي في استحالة الحركة على سبيل المثال لندرك هذه الحقيقة ..
يقول زينون بأن الحركة مستحيلة .. لأن الجسم المتحرك يحتاج أن ينتقل من النقطة أ إلى النقطة ب
ولكنه لكي يتحرك لا بد أن يقطع المسافة بين النقطتين ، ولكي يقطع المسافة لا بد أن يقطع نصف المسافة أولا ، ولكن لكي يقطع نصف المسافة لا بد أن يقطع نصف نصف المسافة ... وبما أن الأعداد لا نهايئة .. إذن يستحيل أن يقطع الجسم أي نصف وبالتالي لا يوجد حركة !
هكذا بكل بساطة يضعك أمام لعبة عقلية ربما لا تستطيع أن تجد لها حلاً عقلياً بكلمات من لغتنا المنطوقة
ولكنك تعرف في داخلك أنك تتحرك :)
غير أن " لعبة الشك " وجدت لها عبر التاريخ رواجاً لا بأس به ... فكانت تجذب الشباب الطامح للتميز والاختلاف عن الآخرين ، وتعطيهم ذلك الشعور بالمتعة العقلية خاصة عندما يحاورون الآخرين ويلقون عليهم بهذه " الألغاز " أو الألعاب اللغوية والعقلية .. ويصيبهم الزهو والنشوة وهم يلاحظون ارتباك الطرف الآخر وعجزه عن تقديم حل " معقول " !
ولكن .. وبنظرة عامة عندما نتأمل فلسفة الشك هذه لا نستطيع أن نلمس أي خيط من خيوط المعرفة الحقيقية .. فهي لا تقول شيئا ذو معنى واقعي بقدر ما هي مخالفة صارخة لأبسط مفاهيم العقل والواقع .. فنحن نعرف في داخلنا أننا نتحرك وسوف نظل نتحرك حتى وإن عجزنا عن تقديم حل لذلك اللغز الشائك الذي أطلقه زينون قبل ما يزيد على ألفي عام ..
***
عندما سيطرت الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى ، أدركت خطورة مثل هذا التفكير الهادم وغير المنتج .. ففرضت وصايتها على العقل وحددت معالم الطريق التي ينبغي أن لا تتخطاها العقول ، غير أن ذلك لم يكن بهدف حماية عقول الناس من الجنون بقدر ما كانت وسيلة لفرض الهيمنة والسلطة واستغلال البشر .. فعندما عطلت الفكر تمكنت من استغلالهم !
ولذلك ليس من الغريب أن يخرج من رحم هذه الثقافة فلاسفة متمردون على هذا الواقع المؤلم وينادون بتحرير العقل وتمجيد الشك ، وهنا جاء ديكارت الذي أعطى الشك بعداً فلسفيا آخر ذو بناء عقلي منتج .. يؤدي بك إلى اليقين متى ما استخدمته الاستخدام الصحيح ..
وبغض النظر عن سلامة كوجيتو ( أنا أفكر إذن أنا موجود ) ديكارت والذي لا يزال يثير العديد من علامات الاستفهام والشك ، إلا أنه يبقى أن هذا الكوجيتو ذو بناء منطقي يختلف عن نزعة الشك المطلق التي مارسها السفسطائيون وأتباع زينون الإيلي وأناسيداموس وغيرهما ..
ومع ذلك .. يكفي أن نتأمل في فكرة الشك ذاتها حتى مع ديكارت ...
لنأخذ المثال التالي :
إذا قلت بأنني أشك بأن بيجاسوس ( الحصان المجنح في الأساطير اليونانية ) موجود ، فهذا معناه أن لدي تصور عن كيان ما يحمل صفات معينة ، ثم أدعي بأن هذا الكيان غير موجود !!
وهنا التناقض .. أن أقول عن شيء موجود ولدي عنه تصور .. بأنه غير موجود !!!
صحيح أنه ليس له كيان مادي .. ولكنه موجود في عقلي كتصور أو فكرة
ومن هنا نفهم أن كل شك يحمل في داخله تناقض داخلي
وهذا ينطبق بالتأكيد على كل الأفكار التي شككت في وجود الله .. فعندما يقول قائل : الله غير موجود
فهو يضع تصور ما ، لإله اسمه الله ، ثم يقول بأنه غير موجود !!!
وللحديث بقية إن شاء الله ...
ورد وود للجميع

No comments: